فرنسا واليمين المتطرف- أزمة نظام سياسي وهيمنة شعبوية مرتقبة؟

المؤلف: يحيى عالم10.22.2025
فرنسا واليمين المتطرف- أزمة نظام سياسي وهيمنة شعبوية مرتقبة؟

لم يكن فوز حزب "التجمع الوطني"، الذي يمثل التيار اليميني المتشدد بقيادة مارين لوبان، بالمركز الأول في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية التي أُجريت في 30 يونيو/حزيران الماضي، أمرًا مفاجئًا. فصعود اليمين المتطرف يمثل اتجاهًا متناميًا في المشهد السياسي الأوروبي برمته.

ويبدو أن فرنسا تتجه لتكون الدولة المحورية الأولى في الاتحاد الأوروبي التي يسيطر عليها اليمين الشعبوي بعد إيطاليا. ومن المتوقع أن تلحق بهما ألمانيا، حيث أصبح اليمين الشعبوي القوة السياسية الثانية في البلاد، كما أظهرت الانتخابات الأوروبية الأخيرة. وتشير هذه التطورات إلى أن اليمين الشعبوي قد يتمكن من حيازة السلطة بشكل كامل في الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب أو المتوسط، وفقًا لعدة مؤشرات.

إن تقدم اليمين في فرنسا وإمكانية فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الحالية يمثل خطوة أولى مهمة في هذا الاتجاه، نظرًا للموقع المركزي الذي تحتله فرنسا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى رمزيتها الكبيرة في المخيال السياسي والثقافي الأوروبي الحديث والمعاصر.

في هذا السياق، وبعد تحليل العوامل التي أدت إلى صعود اليمين الشعبوي والمخاطر التي يحملها هذا الصعود على أوروبا من حيث عودة النزعات الشمولية في مقالتين سابقتين، فإن الحالة الفرنسية، وما ستنتج عنها الانتخابات الحالية في جولتها الثانية من استقطاب حاد بين اليمين المتطرف واليسار وتلاشي تمثيلية القوى السياسية التقليدية، تقدم لنا نموذجًا للدراسة. هذا النموذج يتضمن مقارنة أداء اليمين والقضايا التي استغلها ببراعة، كالأزمة الاقتصادية ومسائل الهوية والقيم الثقافية، من جهة، وبدائل هذا اليمين والطاقات المضادة والدور المطلوب من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة في إعاقة الهيمنة المتسارعة لليمين، من جهة أخرى.

يمثل اليسار وقواه السياسية في فرنسا خيارًا نموذجيًا لما يحمله خطابه وعرضه السياسي من عوامل جذب، سواء داخل فرنسا أو في القضايا الدولية والإقليمية، مما يساهم في تخفيف حدة التوتر والصراعات في أوروبا والشرق الأوسط على حد سواء.

1- الانتخابات الفرنسية.. أزمة النظام السياسي

 

لقد كشفت نتائج الانتخابات الفرنسية عن أزمة عميقة الأبعاد تواجهها فرنسا على مستويين:

  • المستوى الأول: النظام السياسي

ستؤدي النتائج في جميع السيناريوهات إلى تشكيل حكومة من قِبل قوى سياسية معارضة للرئيس، وهي قوى قد تمثل الأغلبية داخل أروقة البرلمان، مما يعني وجود خلل محتمل في ممارسة السلطة بين الجمعية الوطنية (البرلمان) والحكومة والرئيس، ونشوء حالة من التوتر قد تفضي إلى عدم استقرار سياسي. وتشير التوافقات الحالية بين قوى اليسار، التي حلت في المرتبة الثانية في الجولة الأولى بعد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان، ويمين الوسط بقيادة إيمانويل ماكرون، إلى انسحاب نحو 214 مرشحًا، مما يمهد الطريق أمام الدعم المتبادل للحيلولة دون تصدر اليمين الشعبوي للانتخابات.

هذا الخيار التوافقي، وإن كان سيؤثر على فرص اليمين الشعبوي في الفوز بالانتخابات بشكل مريح، إلا أنه لا يعالج جوهر أزمة السلطة، بل سيفرض استراتيجيات جديدة للتكيف السياسي والمؤسساتي، وهو أمر سيكون صعبًا في ظل التباين الحاد في البرامج السياسية والاجتماعية بين اليسار بمكوناته المتنوعة وحزب ماكرون الليبرالي. بل يمتد الخلاف ليشمل القضايا الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية والاعتداءات على غزة.

  • المستوى الثاني: المشهد السياسي والمجتمعي

لقد أفرزت الانتخابات استقطابًا حادًا بين أقصى اليمين وأقصى اليسار؛ وهو استقطاب ظل مؤجلًا منذ وصول الرئيس الفرنسي ماكرون إلى سدة الحكم. والواقع أن الرئيس الفرنسي لم يكن في مسيرته كفاعل سياسي يستند إلى تاريخ سياسي عريق كباقي الشخصيات السياسية الفرنسية التي تعاقبت على الحكم، وإنما استغل بذكاء حالة التناقضات القائمة ومخاوف المجتمع من اليمين الشعبوي في تلك الفترة.

وقد حاول ماكرون اتباع الاستراتيجية ذاتها في أعقاب الانتخابات الأوروبية، إذ ارتكز رهانه الأساسي على إحداث انقسام بين مكونات اليسار أولًا، ثم استغلال التصورات السائدة عن اليمين المتطرف، في محاولة لدفع المجتمع إلى مواجهة المد اليميني الشعبوي. إلا أن قراءته للواقع، بحسب عدد من الكتاب والخبراء الفرنسيين أنفسهم، كانت متسرعة، ولم تعكس فهمًا دقيقًا لتوجهات الرأي العام السياسي في فرنسا، وهو ما أدى إلى تفاقم أزمة سيشهدها النظام السياسي كانت مؤجلة، وقد يمهد ذلك في الوقت نفسه الطريق أمام وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، مما يزيد من حدة الانقسامات المجتمعية، ليس في فرنسا وحدها، بل في جميع أنحاء أوروبا.

2) مخاوف القوى التقليدية وترحيب روسيا وقوى اليمين الأخرى

صرح المستشار الألماني أولاف شولتس خلال مشاركته في مهرجان للجناح اليساري لحزبه في برلين في الثاني من يوليو/تموز بأنه على تواصل مستمر مع الرئيس الفرنسي عبر الرسائل النصية بشأن الوضع الصعب، معربًا عن رغبته في الحيلولة دون تشكيل حكومة يقودها حزب يميني شعبوي. كما أعربت وزيرة الخارجية الألمانية عن قلقها إزاء تصدر حزب ينظر إلى أوروبا باعتبارها مشكلة وليست حلًا، وذلك في سياق الحديث عن المسؤوليات المشتركة بين ألمانيا وفرنسا تجاه وحدة أوروبا.

وبشكل أكثر حدة، صدرت جملة من الآراء عن نخبة من الشخصيات السياسية والإعلامية في عدد من الدول الأوروبية حول خيارات الناخبين الفرنسيين بين اليمين المتطرف واليسار، محذرة من الأضرار البالغة التي قد تلحق بالقيم السياسية التقليدية ووحدة أوروبا.

وبقدر انتشار المخاوف التي يتم التعبير عنها في وضع غير مألوف بشأن الانتخابات داخل الدول الأوروبية، نجد ترحيبًا من قِبل قوى اليمين الشعبوي. وفي هذا السياق، دعت رئيسة الوزراء الإيطالية إلى تجنب شيطنة اليمين، في حين رحبت وسائل الإعلام الروسية بنتائج الجولة الأولى، مما يوضح حالة الترقب لما ستسفر عنه الانتخابات الفرنسية، فهي ستؤثر بشكل مباشر على رسم الخريطة السياسية لمستقبل أوروبا.

إن مناخ التوتر السائد لدى الطبقة السياسية الأوروبية ذات الميول اليسارية أو اليمينية المعتدلة إزاء الانسياق المجتمعي خلف اليمين الشعبوي وتصدر "التجمع الوطني" للانتخابات الفرنسية، وإمكانية حصوله على الأغلبية في الجولة الثانية المقررة يوم الأحد 7 يوليو/تموز، يشير إلى أن هذه الحالة السياسية قد تشكل حافزًا لحزب "البديل من أجل ألمانيا" وغيره من القوى اليمينية في أوروبا.

كما أن ذلك يدفع الشعور الجماعي، في سياقات أضحى الوعي السياسي فيها يتشكل من خلال خطابات عابرة للحدود، عبر الاستثمار في وسائط التواصل ونمط الخطاب البسيط والمباشر، إلى الإقبال على الاتجاهات الشعبوية. وينبغي التأكيد، سواء في فرنسا أو ألمانيا، على أن شبكات الإعلام الجديد شكلت الأداة الفعالة لليمين الشعبوي في الوصول إلى شرائح واسعة من الجمهور عبر خطاب وشعارات اجتماعية وسياسية وثقافية اختزالية وتبسيطية من حيث العمق، لكنها فعالة في حشد الجماهير.

3) ما بعد التوافق الضمني بين تكتل اليسار

وصفت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية في إحدى افتتاحياتها عقب إعلان نتائج الجولة الأولى الانتخابات الحالية بأنها "مأساة" أو "تراجيديا" فرنسية، إذ تجد فرنسا نفسها في مواجهة منظور مزدوج: "المغامرة السياسية" أو "الانسداد المؤسسي"، وهما وجهان لأزمة النظام، حسب الافتتاحية. وفي المقارنة بين اليمين المتطرف واليسار، تميل الافتتاحية، التي تمثل توجهًا ونموذجًا لمخاوف الإعلام والنخبة الليبرالية الفرنسية، إلى "التجمع الوطني" (RN) اليميني المتطرف. ويعلل مدير تحرير الصحيفة ذلك في افتتاحيته قائلًا: "إن برنامج "الجبهة الوطنية" مثير للقلق بالتأكيد، ولكن من ناحية أخرى: معاداة السامية، واليسار الإسلامي، والكراهية الطبقية، والهستيريا المالية، "الجبهة الشعبية الجديدة" هي ناقلة للأيديولوجية التي من شأنها أن تجلب العار والخراب للبلاد".

يمثل هذا الموقف، الذي أثار اعتراض شريحة واسعة من طاقم تحرير الصحيفة، نموذجًا للمحددات التي تصاغ على أساسها تصورات ومواقف النخب والمجتمع على حد سواء، ويشكل أرضية الجدل السياسي والثقافي في فرنسا. وهي في عمومها ذات صلة وثيقة بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وإن كان اليمين المتطرف وكتلة اليسار أو "الجبهة الشعبية" لا يختلف أحدهما عن الآخر كثيرًا في عدد من النقاط المتعلقة بالبعد الاجتماعي في مسألة الضرائب وسن التقاعد وغير ذلك، فهي أمور تخص عموم الطبقة السياسية في فرنسا وتشكل مدخلًا للفاعلين السياسيين في خلق تفاعلات جديدة في المشهد السياسي، ولا تخرج كليًا عن نسق السوق إلا في بعض الجوانب ذات الصبغة الاجتماعية في البرامج والمقترحات.

لكن "الجبهة الشعبية الجديدة"، التي تتشكل من "حزب فرنسا الأبية" و"الحزب الشيوعي الفرنسي"، و"التجمع الوطني" (RN) بقيادة مارين لوبان، يختلفان بشكل جوهري في الجدل الثقافي وقضايا الحريات والتعددية. وفي صلب ذلك ما أُطلق عليه في فرنسا "اليسار الإسلامي"، وهي تسمية أطلقتها حكومة ماكرون سابقًا على مجموعة من النخب الأكاديمية والثقافية التي تمثل الحس النقدي المعارض للنزعة التي تلبست الخطاب السياسي الفرنسي في التخويف من الإسلام واختلاق الأزمات الاجتماعية والثقافية والهوياتية تحت عنوان "الهجرة والمهاجرين وقيم الجمهورية الفرنسية".

تلك النخبة في واقع الأمر تعبر عن انتصار حقيقي لقيم الأنوار في الحرية والمساواة والنقد، لكن فرنسا، بفعل تراكم مشكلة الهوية المزمنة وعدم النجاح في إنتاج سياسات اجتماعية تستوعب التعدد المجتمعي والتنوع، أفرزت مظاهر مختلفة أصبح يُنظر إليها باعتبارها سبب الأزمات والإخفاقات، بينما الأزمة تكمن في السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي انتهجتها فرنسا.

ومن ثم، فإن جملة من القضايا ذات الصلة بالهجرة والمهاجرين، والآخر المتمثل في الإسلام أو في غيره، والعلاقة مع الشعوب والمجتمعات الأفريقية والشرق أوسطية، إنما هي نتاج لديناميكيات الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي والثقافي والسياسي التي تخص فرنسا والنموذج الفرنسي ذي الصبغة الشمولية، ولا تخص هذه المكونات التي وجدت نفسها مستبعدة أو مهمشة.

إن الأزمة الراهنة في الاستقطاب الحاد بين اليمين المتطرف وتكتل اليسار، والمخاوف الناجمة عن إمكانية هيمنة اليمين الشعبوي على السلطة، إنما هي نتيجة لحالة القلق التي سادت في فرنسا خلال العقد الماضي. وبدلًا من معالجة الجذور السياسية والثقافية والاقتصادية للمشكلات المعقدة، تم التضييق على أعراضها وتمظهراتها أو نتائجها، بل كان التنافس حادًا في إنتاج خطاب يعمم حالة الخوف المتبادل بين مكونات المجتمع، وقدم قراءة سطحية لجملة من القضايا تستمد أصولها من الأدبيات الثقافية والهوياتية التي يركز عليها اليمين المتطرف.

فالحالة الراهنة هي تجلٍّ للبعد اللاعقلاني في الحياة السياسية الفرنسية، ومن ثم فإن أهم الجوانب التي يمكن من خلالها تجاوز تمدد اليمين وسيطرته على السلطة في الانتخابات الحالية أو المقبلة إنما يقتضي ضرورة الانزياح إلى الأبعاد العقلانية في الخطاب السياسي داخل فرنسا والبحث في الجذور السياسية والاقتصادية للأزمات، وليس في التركيز على الجوانب والأبعاد الثقافية والهوياتية.

فالبعد الهوياتي والثقافي بطبعه، حين يخضع للتوظيف السياسي، يؤدي إلى إفراز الشمولية والانقسام المجتمعي، بينما يشكل مناخ الحرية والتعددية حالة ثراء مجتمعي. والنخبة الثقافية والإعلامية والسياسية الفرنسية بحاجة إلى الاستثمار في تراث العقل النقدي، وليس الانسياق خلف خطاب يميني يغذي سيكولوجيا الجمهور. كما أن سيطرة الشعارات والعواطف على الخطاب السياسي قد تنتج مأساة مستقبلية، إن لم يكن في الانتخابات الحالية، ففي المستقبل، سواء في فرنسا أو أوروبا.

ختامًا

نختتم بهذا السؤال المحوري: ما هي المؤشرات التي تحملها الانتخابات الفرنسية، وما هي الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها المكونات ذات الأصول المهاجرة أو الدول العربية والإسلامية نفسها في محاصرة اليمين المتطرف؟

قد يكون التوافق علاجًا مؤقتًا لوقف تقدم اليمين في فرنسا، وفقًا لعدد من المراقبين للشأن الفرنسي، لكن فرنسا تتجه بخطى حثيثة نحو احتضان اليمين الشعبوي. بيد أن الانخراط الفعلي في عملية إنتاج خطاب سياسي عقلاني قد يجنب فرنسا على المدى البعيد الوقوع في المأساة أو حصول التراجيديا. إلا أن انتهازية الفاعلين السياسيين، التي يمثلها حزب الرئيس الفرنسي في استغلال اليسار لوقف تقدم اليمين بعد أن أخفق في إحداث انقسام في صفوفه، قد تحد من اليمين مؤقتًا، لكنها ستخلق أزمة عميقة في المستقبل.

أما في حال حصول اليمين المتطرف على الأغلبية المطلقة في الجولة الثانية، فإن أوروبا ستكون قد دخلت بالفعل مرحلة هيمنة قوى اليمين الشعبوي. لذلك يعتبر اليسار، بالنسبة للمتضررين من اليمين المتطرف، أفقًا عقلانيًا وبديلًا فعليًا في الحالة الفرنسية، سواء خلال الجولة الثانية من الانتخابات يوم الأحد المقبل 7 يوليو/تموز 2024 أو في ترشيد الخطاب والممارسة السياسية والثقافية فيما سيعقب الجولة الثانية. هذا من الناحية السياسية.

أما مؤسساتيًا، فإن طبيعة النظام السياسي، مع الاستقطاب الحاد، ستبقي على حالة الاصطفاف، ذلك أن اليمين الشعبوي، إذا لم يحصل على المرتبة الأولى، فإنه سيكون القوة الفعلية كتكتل متجانس ثقافيًا وسياسيًا، وهو ما قد يفتقر إليه التوافق بين كتلة ماكرون وكتلة اليسار. فهو توافق قائم على مصلحة مرحلية، لكنه توافق في سياق نسق ديمقراطي، ولعل هذا ما قد يشكل ضمانة للمستقبل، وإن كانت الشموليات في القرن العشرين من إفراز الديمقراطيات نفسها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة